رواية المغتربات
الفصل الثاني
بقلم حمادة زهران
-"اللي زيك نهايته معروفه..وبتبدأ من لحظة غروره".
وبهدوء، حط إيده على زرار في المكتب..في ثواني سمعنا صوت صفارات إنذار،والفيلا بدأت تنور كلها باللون الأحمر.
صرخت بأعلى صوتي:
-"اخرجوا من المكان فوراً..فيه تفجير هيحصل".
لحسن الحظ،القوة كانت سريعة..وقدرنا نخرج الستات،وبعدها بثواني،انفجر جزء من البدروم..ومسكنا الراجل قبل ما يهرب.
رجعت القسم، وأنا عقلي بيغلي من كتر الأسئلة..مين المتحكم الحقيقي..دخلت غرفة التحقيق، لقيت الراجل قاعد هادي،كأن اللي حصل في الفيلا مايعنيهوش،ولا كأن البنات كانوا هيموتوا تحت رجله.
دخلت عليه وأنا ماسك ملف القضية، ورميته على الترابيزة قدامه..بص عليها،وابتسم بسخرية.
قولتله وأنا ببصله في عينه:
"شوف حبايبك عملوا فيك إيه، بدل ما ينقذوك من أيدي..كانوا هيفجروا المكان وانت جوه..انت بالنسبالهم ملكش قيمة، أنت مجرد ترس صغير في مكنة وسخة".
ما اتكلمش،بس عينه ارتبكت..قربت منه، وقولتله:
-"آخر فرصة ليك..لو لسه عندك ضمير،مع اني أشك في كده،وعايز تنقذ نفسك..اتكلم. أنا وصلتلك، بس المتهمين اللي جايين أكبر منك بكتير".
هز راسه وقال بصوت واطي:
-"أنا ماعرفش اسمه الحقيقي..بس كانوا بيسموه العراب".
عقدت حواجبي وقولت:
-"يا حلاوتكم انتوا الجوز، واحد مهندس، والتاني العراب".
="أيوه..مبيظهرش، مبيتكلمش غير من خلال ناس زيه،وأنا كنت واحد منهم..كل بنت كان ليها رقم وسعر،وكل حاجة كانت ماشية بالدقة،بالورقة والقلم..بس أنا مكنتش أعرف إن في قتل".
سكت لحظة، وكمل:
-"أنا كنت بوصل البنات،وأوقات بستلمهم..بس لما لقيت دعاء ماتت، كنت همشي بس خوفت..العراب بعتلي رسالة:
-"اللي يعرف..مايعيشش".
اخدت نفس عميق، وقولتله:
-"يبقى نلعب لعبتهم..ونوصل للعراب، بس بطريقتنا".
وأنا طالع رايح المكتب، صبرين وقفتني وقالتلي:
-"باشا، فيه اسم دايماً بيتكرر في دفاتر البنات..كلهم اشتغلوا قبلي في مكتب تسويق عقاري في الزمالك، اسمه"الروضة جروب"..واللي ماسكاه واحدة اسمها شيرين النجار".
قولت في سري:
-"وبعديييين..شيرين النجار،هانم من طبقة تانية وداخلة في لعبة كبيرة..ولا هي مجرد قناع لحد أكبر".
حسيت إني قربت، بس في نفس الوقت لسه بعيد.
دماغي اشتغلت زي مكنة الخياطة..واحدة زي شيرين النجار، شغالة في العقارات،ومرتبطة بأسماء البنات اللي اختفوا..دي علامة ولازم تتفك.
تاني يوم، لبست مدني، واخدت صبرين معايا كأنها موظفة جديدة جاية تقدم على شغل،واتجهنا لمكتب "الروضة جروب" في الزمالك..الاستقبال شيك جداً،والريحة فيها عطر حريمي تقيل.
دخلنا..استقبلتنا سكرتيرة لابسة فورمال زيادة عن اللزوم،وقالت لصبرين بإبتسامة مصطنعة:
-"حضرتك حجزتي مقابلة".
صبرين قالت:
-"أيوه..مع مدام شيرين، أنا جاية أقدم على وظيفة مسؤولة تسويق".
السكرتيرة دورت في اللابتوب شوية، وبعدين قامت وقالت:
-"اتفضلي معايا..مدام شيرين فاضية دلوقتي".
دخلنا المكتب..شيرين النجار كانت قاعدة ورا مكتب زجاج..لابسة أبيض من فوق لتحت،وشعرها مشدود ووشها بارد منحوت..بصت لصبرين وقالت:
-"أيوه يا آنسة..إنتي كنتي شغالة قبل كده في المجال".
قبل ما صبرين ترد، قطعت عليهم الكلام وطلعت الكارنيه وقولتلها:
-"أنا المقدم محمد مهران..وجاي أسأل شوية أسئلة مهمة".
وشها ما اتغيرش،ولا حتى رمشت..وقالت بثقة:
-"خير يا حضرة الضابط".
="تعرفي دعاء شعبان..كانت شغالة هنا من سنة".
-"كتير اشتغلوا ومشيوا..مش كل الأسماء بتفضل في دماغي".
="طب غادة..ريم..نانسي،كلهم اشتغلوا هنا..وكلهم اختفوا".
لمحت رعشة صغيرة في إيدها وهي بتعدل النظارة،بس صوتها فضل ثابت:
-"حضرتك جاي تتهمني بحاجة".
="أنا جاي أدور على الحقيقة..والمكتب ده طلع مشترك في أكتر من حالة، ولو كنتي بريئة يبقى تساعديني".
سكتت ثواني،وبعدين قالت:
-"فيه أوراق قديمة في الأرشيف،تقدروا تبصوا عليها..بس أنا مش مسؤولة عن البنات بعد ما بيسيبوا المكان".
خرجت من المكتب وإحساس غريب بيشدني..الست دي مش سهلة، لكن برضوا مش مجرد غطاء..الجواب فين،
مين بيحرك اللعبة دي كلها..وليه وجيه كتب في آخر ورقة "اللي بعدها هتكون أصعب".
رجعنا القسم، ولقيت ورقة جاية بالبريد، مفيهاش مرسل، بس جواها صورة قديمة،أبيض وأسود، لطفلة قاعدة على كرسي معدن..وفي إيديها سلسلة مربوطة،وفيها شبه كبير جداً بدعاء.
بس الأغرب..الصورة من كاميرا مراقبة، ومكتوب عليها بخط أحمر:
-"شيرين مكنتش أولهم..بس هتكون أخرهم".
فضلت ماسك الصورة وببص فيها،والدنيا كلها حواليا سكتت،وصوت المروحة في السقف بقى عامل زي صدى فاضي.
شيرين هي المفتاح، بس مش القفل..البنت اللي في الصورة شبه دعاء، بس أصغر وأضعف، وفيه نظرة خوف في عينيها مش موجودة عند طفلة عادية.
نزلت لمعمل الأدلة،وطلبت تحليل للصورة،ودورت في سجل الأطفال المفقودين من التمانينات والتسعينات، وكل بنت عندها نفس علامة في وشها..وفي وسط الأرشيف،لقينا
الطفلة في الصورة..اسمها "شهد النجار"، واختفت سنة 1993 من دار أيتام في العجوزة..الملف بيقول إنها اتبنت بعد كده عن طريق جهة خاصة، واللي استلمها كانت ست أجنبية اسمها مارجريت ليهارن، لكن فجأة مارجريت اختفت، والملف اتقفل على كده.
رجعت الصورة،وقارنت ملامح شهد بـ شيرين..نفس الدقن،نفس المسافة بين الحواجب، نفس الشفايف..شيرين النجار مش بس بتغطي على الشبكة، دي أساس الشبكة.
دخلت على المهندس تاني، وهو في الحجز..وريته الصورة،عنيه وسعت ولسانه اتعقد،ووشه بقى أصفر.
"قول يا هندسة..مين هي شهد".
="إنت..إنت وصلت للصورة إزاي".
-"الموضوع خلاص خلص، يا تنقذ روحك وتحكي، يا إما تغرق معاهم".
="شيرين النجار..شيرين دي مش اسمها الحقيقي،دي اتربت في الزنزانة دي وهي طفلة..كانت جزء من تجربة عملوها زمااان، لما الشبكة كانت بتختبر الأطفال اللي ينفعوا يبقوا مساعدين..وشيرين كانت أنجح واحدة، حفظت القواعد، وبقت واحدة من اللي بيختاروا البنات".
زي ما توقعت،شيرين مش بس شريكة..دي واحدة من صنعت الجحيم ده.
خرجت من عنده،وروحت بالعربية..كنت حاسس إني ماشي وسط حقل ألغام..بس قبل ما أوصل البيت، وصلتني رسالة على الموبايل:
"لو قربت أكتر،هتلاقي نفسك مكان البنت اللي في الصورة..م.ل".
م.ل..اكيد ده اللي بيدير الشبكة دي من تحت الأرض..القضية دخلت على مرحلة تانية،والموت بقى بيقرب.
تاني يوم في القسم،الساعة 8:55 صباحاً،عملت ضبط وإحضار لشرين النجار..وبعد ساعتين تقريباً شيرين بقيت في أوضة التحقيق..دخلت لقيتها قاعدة، وشها بارد كالعادة،بس عنيها فيها توتر خفيف.
قعدت وطلعت الصورة وحطيتها قدامها على الطربيزة وقولت:
-"تعرفي البنت دي".
سكتت شوية،وفضلت تبص للصورة، وبعد ثانيتين رفعت عنيها وبكل هدوء قالت:
-"أيوه… دي صورتي أنا".
="يعني شيرين النجار،مش اسمك الحقيقي".
ضحكت ضحكة خفيفة مرعبة،وقالت:
-"أنا ما اخترتش أبقى مين..كنت طفلة،مجرد سلعة..بس لما كبرت بقيت بائعة".

تعليقات
إرسال تعليق
مرحب بكم في مدونة معرض الرويات نتمنه لكم قراء ممتعه اترك5 تعليق ليصلك كل جديد