قصة ناردين ونادين
الفصل الاول1الاخير
بقلم aşkım
في أحد أحياء المدينة المتوسطة، حيث لا ناطحات سحاب، ولا ضوضاء خانقة، فقط ضوء مصابيح الشوارع يتسلل إلى النوافذ بهدوء، كانت ناردين تجلس على حافة سريرها في شقتها الصغيرة. طاولة المكتب بجوارها تغصّ بالأوراق والمجلات العلمية، وفي الزاوية جهاز كمبيوتر لم تطفئه منذ يومين. الهواء مشبع برائحة القهوة الباردة، وساعة الحائط المعلقة تهدر كأنها تذكّرها بأن شيئًا ما يتغير، ببطء… وبإصرار."أنا ناردين، ثلاثون عامًا. مهندسة طاقة. أعمل في قسم التجارب التطبيقية في مركز بحثي صغير تابع للجامعة. حياتي عادية إلى حدّ ممل. أستيقظ، أذهب للعمل، أعود، أطهو شيئًا بالكاد يصلح للأكل، ثم أكتب في دفتر صغير أُسميه زورًا 'مذكرات'، وهو في الحقيقة مجرد تنفيس عن رتابة الأيام. لم أكن أؤمن بالأكوان الموازية ولا الترددات ولا أي من تلك القصص. لكن العمل مؤخرًا دخل في منطقة رمادية… تجربة تمويل خاص، لا تُنشر، لا تُناقش، ولا أحد يعلم تفاصيلها إلا فريق ضيّق بقيادة أستاذ متقاعد اسمه د. فادي. التجربة، كما قال، تعتمد على "توافق اهتزازي" بين الأجسام الفيزيائية والمجالات المغناطيسية متعددة الأبعاد. كلام بدا لي هراءً أكاديميًا… حتى تلك الليلة."
وفي مكان آخر، في بلدة ريفية صغيرة حيث السماء تمطر أكثر مما تشرق، عاشت نادين. بيتها كان قديمًا لكنه دافئ، شرفته تطل على حقل صغير وكنيسة مهجورة منذ زمن. كانت تعمل في مكتبة المدرسة المحلية، تعيش مع والدتها المريضة التي لم تغادر السرير منذ عامين. كان يومها يمرّ بين الكتب، وتحضير الحساء، ومشاهدة البرامج الوثائقية القديمة على شاشة تلفاز متقادم.
"أنا نادين. عمري تسع وعشرون سنة. لا أظن أن حياتي مهمة بما يكفي لكتابة سطر عنها. لا شيء فيها غريب أو مثير. لكنّي دائمًا كنت أحس بشيء ما ناقص… شيء لا يُرى. لسنوات، تراودني أحلام عن أماكن لا أعرفها، وجوه غريبة، وأجهزة لا أفهمها. ظننتها مجرد انعكاسات لما أقرأه. حتى جاء ذلك الرجل الغريب إلى المكتبة، وسأل عن كتب فيزيائية لا نحتفظ بها عادة… ترك خلفه دفترًا صغيرًا، مليئًا برموز ورسومات غريبة، وكان فيه صفحة… كُتب عليها اسمي. بخط واضح. اسمي الحقيقي. وأنا لم أذكره له قط."
كانت التجربة في مركز ناردين تُجرى بسرية تامة. الجهاز يبدو كحجرة صغيرة دائرية، محاطة بأنابيب نحاسية وأسلاك متشابكة، في منتصفها منصة معدنية. حسب ما فهمته ناردين، فإن التجربة تهدف إلى "تحفيز الجسد على إنتاج طيف طاقي يمكنه التوافق مع مجال كهرومغناطيسي عالي التردد"، ما قد يُستخدم يومًا ما لنقل الطاقة بدون أسلاك. لكنها لاحظت أن المعادلات المكتوبة على اللوح… فيها شيء غريب. كأن الهدف ليس الطاقة… بل الوعي.
سألته ذات مرة:
– "دكتور فادي، لو افترضنا أن المجال دا فعلاً يغيّر الترددات الحيوية للبشر… إيه اللي ممكن يحصل؟"
أجابها وهو لا ينظر إليها:
– "لو حصل توافق كامل… ممكن تلاقي نفسك في مكان مش المفروض تكوني فيه."
وفي تلك الليلة، طلب منها أن تجلس على المنصة لتجربة "غير فعّالة"، لمجرد قياس النبضات الناتجة. كانت مرهقة، لكنها وافقت.
في اللحظة نفسها التي فعّل فيها الجهاز، كانت نادين، في عالمها، تمسك بالدفتر وتقرأ الكلمات المبعثرة، فتنطقها بصوت خافت. لم تكن تعلم أن ما تنطقه هو صيغة تزامن، صيغة تُستخدم لضبط ترددين متباعدين على موجة واحدة.
وفجأة… توقفت الساعة في المكانين.
لم يكن هناك ضوء. فقط خدر. ثم سواد… ثم وعي يعود في جسد لا ينتمي.
استيقظت ناردين في سرير غريب، والمكان لا يشبه مختبرًا. جدران خشبية، مروحة قديمة تدور ببطء، ورائحة صابون بلدي. كانت ترتدي بيجامة قطنية لا تخصّها، والغرفة بها صور لعائلة لا تعرفها. خرجت تمشي، والشمس حارقة بطريقة لم تعتدها. لم تجد هاتفها. لم تجد جهاز الدخول البيومتري. فقط امرأة تناديها من المطبخ:
– "نادين! فطرتك حتسخن!"
تجمدت في مكانها.
"نادين؟… مين نادين؟"
وفي الجهة الأخرى، استيقظت نادين على ضوء صناعي، وسقف معدني، وشاشة على الحائط تعرض سطرًا واحدًا:
"الموضوع: تجربة 77 – حالة استبدال ناجحة."
وقفت أمام مرآة. وجه يشبهها… لكنه ليس وجهها. كانت هناك نُدبة تحت العين لم تكن موجودة. نبرة الصوت اختلفت. حتى الطريقة التي تمشي بها بدت غريبة.
فتحت الباب… فإذا بممر طويل، وباب آخر مغلق بكود.
"ما هذا المكان؟! من أنتم؟! أنا… أنا مش المفروض أكون هنا!"
لكن لا أحد أجاب.
الصدمة الأولى لم تكن في الغرابة… بل في التفاصيل الصغيرة.
ناردين لم تفهم لهجة الناس في القرية. لم تكن فظة، لكنها كانت مليئة بكلمات لم تسمعها من قبل. وعندما حاولت استخدام علمها، اكتشفت أن الناس لا يعرفون حتى ما تعنيه كلمة "طاقة متجددة".
أما نادين، فقد عاشت أول يوم لها في عالم لا يُسمح فيه بالكلمات غير المطلوبة. كل شيء مضبوط. حتى الطعام يُختار لها آليًا حسب تحليل لعابها. لم يكن هناك هواء حقيقي. ولا سماء.
والمرآة… كانت تبتسم لها وحدها.
في المساء، جلست ناردين على طرف السرير في الغرفة التي أصبحت بيتًا مؤقتًا لها، في عالم لم يكن يومًا عالمها. كانت تسمع من الخارج صوت الريح يضرب الأشجار بقوة، كأنها تحاول اقتلاعها من جذورها، وصوت باب الحظيرة يتأرجح بلا توقف. ورغم أن كل شيء يوحي بأنه مجرد ليل عاصف… كانت تشعر أن شيئًا ما يراقبها.
كلما أطفأت المصباح، بدأت أصوات خافتة تنبعث من خلف الجدران، أصوات تشبه الهمس، لكنها لا تُفهم… فقط تتكرر بجملة واحدة:
"رجّعيه... قبل ما يشوفك."
في البداية ظنّتها أوهام إرهاق. لكنّها حين كتبت الجملة على الورق… انقطع الحبر فجأة، كأن القلم نفسه رفض كتابتها.
في الليلة التالية، استيقظت على صوت طرقات خفيفة على نافذتها، فتحت الستارة بحذر… لم يكن هناك أحد. ولكنها لاحظت شيئًا كان قد فُتح… دفتر قديم وجدته في أحد الأدراج. لم يكن لها، لكنها لم تجرؤ على لمسه سابقًا. الآن، كانت صفحاته تُقلّب وحدها، حتى توقفت على صفحة كُتب فيها بخط باهت:
"المسكون دخل الجسد، والواعية تأخرت."
ركضت من الغرفة، مرتعشة، لا تعرف إلى أين تذهب، وكلما مرّت بجانب أحد من سكان البيت، نظر إليها باستغراب، وكأنها ليست نادين التي يعرفونها. بل إن صبياً صغيراً، حين رآها، صاح في وجهها فجأة:
– "انتي مش هي! انتي مش أختي!"
سقطت كلمات الطفل على قلبها كرصاص. نظرت في عينيه، كان فيهما خوف صادق، فطري، لا يُكذّب.
أما نادين، ففي ذلك المرفق البارد، كانت تتنقّل بين الممرات كأنها سجينة في حلم متكرر. لا تعرف كم مرّ من الوقت، لأن الساعات هنا لا تُظهر الوقت، بل تُظهر "نسبة التوافق". وكل يوم، ترتفع النسبة.
عندما تجاوزت 90%، بدأت تظهر عليها أعراض غريبة: رعشة لا إرادية في يدها اليسرى، كأنها تتحرّك رغمًا عنها… ونزيف أنف لا يتوقف في أوقات محددة. وفي كل مرة ينزف أنفها، كانت ترى في طرف عينها صورة عابرة… فتاة تشبهها تمامًا، لكن وجهها محترق جزئيًا، تقف عند نهاية الممر وتنظر إليها… بلا أعين.
حاولت الصراخ. حاولت ضرب أجهزة المراقبة. لكنهم كانوا يأتون، يعطونها مهدّئًا عبر إبرة طويلة، ويهمسون:
– "كل ده طبيعي… ده جزء من التهيئة."
بدأت تشك أن من حولها ليسوا بشرًا، أو على الأقل… ليسوا أحياءً بالكامل.
ناردين في العالم القروي، قررت الهرب. خرجت ليلًا بعد أن سرقت مفاتيح الدراجة النارية القديمة. كانت تريد فقط أن تصل إلى المدينة، أن تجد أي شخص منطقي، مستشفى، شرطياً، أي شيء. لكنها بالكاد قادت لدقائق، حتى انطفأ الضوء الأمامي، وتوقفت الدراجة فجأة كأن قوة خفية جمدتها. ثم جاء الصوت… من خلف الأشجار:
"مش كل جسد يستاهل روحه."
هربت تركض وسط الحقول، حتى سقطت في حفرة طينية، وعندما نظرت حولها، رأت شيئًا مدفونًا جزئيًا… يدًا بشرية يابسة، تمسك دفترًا، من النوع الذي كانت تكتب فيه مذكراتها في عالمها. فتحت الدفتر، وكان مكتوبًا على الصفحة الأولى:
"أنا ناردين… بس دي مش حكايتي."
في المنشأة، تم إدخال نادين إلى غرفة جديدة، لا تحتوي على شيء سوى مرآة ضخمة. طُلب منها أن تجلس أمامها وتقول جملة واحدة:
– "أنا ناردين."
رفضت.
فانطفأت الأنوار.
وبدأ انعكاسها يتحرّك وحده… يمسح وجهه، يفتح عينيه، ويبتسم ابتسامة واسعة لا تشبه أي شيء تعرفه.
ثم قال بصوتها، لكن أبطأ، كأنه يأتي من باطن الأرض:
– "أنا نادين… اللي كانت… ولسه جواكي."
العالمان ينهاران، والوعي يتفسّخ، وكل واحدة منهما بدأت تشعر أن الأخرى تعيش في ظلّها… بل أن ما بدا كخطأ في التجربة، كان ربما مقصودًا.
من الذي أراد التبديل؟
ولماذا تركوا لكل واحدة منهما… أثرًا في الآخر؟
وما الذي كان ينتظر ناردين… تحت التراب؟
الليل في القرية لم يعد ليلًا… صار مزيجًا ثقيلًا من الظلام والانتظار. ناردين لم تعد تعرف كيف تمشي دون أن تحسب عدد الخطوات. كل شيء صار يحتاج إلى وعي مضاعف، لأنها ببساطة… لم تعد تثق في قدميها. في المرايا، ترى ظلًا خلفها لا يتحرك حين تتحرك. في الماء، تنعكس وجوه لا تعرفها، تبتسم بثبات مرعب.
عادت في اليوم التالي إلى الحفرة التي سقطت فيها، لكنها لم تجد شيئًا. لا يد، لا دفتر، لا طين. وكأن الأرض قررت محو الدليل. وعندما حاولت إخبار من في المنزل، نظروا إليها بشكّ واضح.
– "من إمتى بتحلمي وانتي واقفة؟"
كانت تلك الجملة مفتاح الخوف الجديد: هل ما تراه رؤى؟ أم أن عالمًا آخر يتسرّب إليها من مسام الجسد؟
في المنشأة، كانت نادين تستيقظ كل يوم على صوت يخرج من مكبّر صغير فوق سريرها:
"العقل السليم لا يرفض التوافق."
لكنها لم تكن توافق.
كانت ترسم. على الجدران، على ملابسها، على جسدها أحيانًا… نفس الوجه. نفس الوجه المشوّه الذي تراه في لمحة، في الزاوية، في انعكاس البرّاد المعدني. وجهها… لكن ليس تمامًا.
وفي إحدى الليالي، استيقظت فزعة بعد أن شعرت بأن أحدهم ينظر إليها. لم يكن أحد في الغرفة، لكن المرآة كانت مشروخة فجأة… والشقّ في الزجاج كان يتبع شكل ابتسامة.
ذهبت إلى الباب، طرقته بعنف، صرخت حتى احمرّ وجهها، فجاء أحد الحراس، لكنه لم يتحدث.
بل فقط… ناولها ورقة مطوية.
كان فيها خربشة واضحة، كأنها كُتبت بيد مرتجفة:
"اللي دخل جواكي… مش عايز يخرج.
بس في واحدة تانية… بتدور عليه.
لو اتقابلتوا… حد هيموت في التانية."
ناردين بدأت تشعر بأن جسدها يرفضها. يدها ترتعش. لسانها يخطئ في نطق الكلمات البسيطة. وفي الليل، تتحدث أثناء النوم بلغة لم تسمعها من قبل… لغة وكأنها صدى لشيء آخر يتكلم من خلالها. كلما استيقظت، تجد تحت وسادتها أوراقًا ممزقة من دفتر أحلامها القديم… ذلك الدفتر الذي ضاع في عالمها الحقيقي.
وفي ورقة منهم، كان هناك رسم دقيق جدًا… لجهاز لم تره من قبل، ولكن عقلها أخبرها فوريًا باسمه:
"حجرة التوافق المقلوب."
وفي المنشأة، قررت نادين الهرب. كل شيء صار يحتشد داخلها: الصوت، المرآة، الجدران، الصدى الذي يتردد حتى في صمتها. انتظرت الليل. سرقت بطاقة من أحد الحراس بعدما أغرته بـحديثها عن شيء اسمه "كسر الحلقة". وهي جملة كانت قد قرأتها في دفتر الرجل الغريب في مكتبتها القديمة.
نجحت في فتح باب خلفي لم يُفتح منذ زمن طويل.
خرجت إلى ممر مظلم، مختلف عن باقي الممرات… مرصوف بالحجارة، لا بالبلاط المعدني.
وعلى الجدران… كانت هناك علامات تشبه تلك التي تراها في أحلامها.
وفي نهاية الممر، وجدت بابًا خشبيًا قديمًا، عليه نقش محفور:
"لكلّ جسد ظلّ…
ولكل ظلّ زمن…
ولكل زمن مفتاح."
فتحت الباب… فوجدت نفسها في بيت قديم جدًا.
في ركنه… كانت هناك مرآة كبيرة مغطاة بقماش أحمر.
اقتربت.
وقبل أن ترفع الغطاء، رأت في زجاج النافذة انعكاسًا لوجه ناردين… في القرية.
نفس الملامح. نفس الدهشة. نفس الرعب.
في اللحظة نفسها، كانت ناردين، في عالمها، تمسك مرآة صغيرة وجدت في خزانة قديمة… وتلمح خلف انعكاسها، في لمحة خاطفة، نادين… في المنشأة.
المرآتان ارتجفتا في التوقيت نفسه.
ثم انكسرتا معًا.
ارتجّ شيء في العالمين.
الأرض في القرية تشققت تحت قدمي ناردين.
وفي المنشأة، انطفأت الأضواء كلها، ولم تعد تضيء… إلا غرفة واحدة.
كانت تلك الغرفة تحتوي على جدار مكتوب عليه آلاف الأسماء.
أسماء لأشخاص… لم يُكملوا التبديل.
لكن في المنتصف، كان هناك اسم واحد مكتوب بالحبر الأحمر:
"ناردين / نادين – حالة خاصة – فشل جزئي – احتمال مواجهة."
وأسفلها مباشرة… كانت هناك ملاحظة بخط مهزوز:
"إذا تقابلتا…
ينكسر الحاجز.
ويبدأ الرجوع."
ناردين وقفت فوق الأرض المتشققة، بينما الريح تعوي، والسماء لم تعد تبدو سماء… صارت صفحة سوداء عليها شروخ من برق صامت. تشقّقت الأرض أسفلها ببطء، كأنها تُجهز لبصق شيء ما… أو لابتلاعها. ومن بين الشقوق، خرج بخار بارد، ومعه رائحة… لا تُحتمل، رائحة موت قديم، رائحة أشياء دُفنت ولم تُغفر.
تراجعت، تريد أن تركض، لكن جسدها لم يطاوعها. كانت قدماها مزروعتين كجذوع أشجار في التربة، والهواء صار ثقيلًا لدرجة أنها لم تعد قادرة على الصراخ. رفعت رأسها لتجد شخصًا واقفًا فوق التل المقابل.
كان يلبس ملابسها.
كان له وجهها.
لكن عينيه سوداوين تمامًا… بلا بياض.
ابتسمت النسخة الأخرى منها ابتسامة بطيئة… ورفعت يدها.
وفي التلّ الآخر… في المنشأة… نادين رأت الشيء نفسه، لكن معكوسًا.
رأت ناردين… وجهها يخرج من الجدار كما لو كان طينًا حيًا، ويده تشير إليها.
كل منهما رأت الأخرى في نفس اللحظة.
وحين تلاقت العينان، شيء ما… انهار.
العالمان ارتجّا بعنف، كأن أحدهم حرّك حجرًا أساسيًا في نسيج الكون.
القرية صارت تذوب. الطرقات اختلطت بالسماء. الناس بدأوا يتحركون بشكل غير طبيعي… وكأن الزمن ينسكب من أفواههم.
في المنشأة، الأضواء انفجرت واحدة تلو الأخرى، والممرضون… سقطوا على الأرض وبدأت أجسادهم تتحلل كأنهم مصنوعون من ورق مبتلّ.
ثم… فُتح باب.
باب لم يكن موجودًا من قبل.
باب معدني صدئ، كُتب عليه من الخارج:
"غرفة العبور الأخير."
دخلته نادين.
وفي نفس الوقت، وجدت ناردين نفسها تسير، رغمًا عنها، إلى حظيرة قديمة في طرف القرية… لم يدخلها أحد منذ خمسين عامًا.
كأن شيئًا ما يُرشد كل واحدة منهما لنقطة النهاية.
ناردين دخلت الحظيرة.
نفس الرائحة. نفس البخار البارد.
وفي الداخل، دائرة من الرماد.
وفي المنتصف، شيء ملفوف في قماش أبيض. جسد بشري صغير الحجم.
لكنّ يده خرجت من القماش… وكانت ترتدي ساعة تشبه تمامًا ساعة ناردين.
سمعت صوتًا خلفها، فاستدارت.
كانت نادين.
لكن ملامحها بدأت تتبدّل. وكأن وجهها يُنسى… ويُعاد تشكيله.
اقتربتا من بعضهما.
لكن كل خطوة كان الزمن فيها يتقطّع.
في لحظة كانت نادين كبيرة في السن.
وفي اللحظة التالية، صارت ناردين هي الطفلة.
ثم تلاشت الملامح تمامًا… وبقيت فقط الأعين.
نفس العيون.
---
تكلمتا معًا… بنفس الصوت:
– "أنا مش أنا… وإنتي مش إنتي.
بس في واحدة فينا لازم تخرج."
فُتحت الأرض أسفل الدائرة.
وصعد منها صوت… لا ينتمي لأي جنس بشري:
"اختاري…"
رفعت ناردين يدها… وأشارت إلى الجسد الملفوف.
لكن نادين صرخت:
– "هو مش إحنا! هو الأصل!"
وفجأة، انشقت الجدران عن مشاهد متكررة… لحياتيهما كما كانت يجب أن تكون.
ناردين في بيتها البسيط، تأكل الفول وتضحك مع أمها.
نادين في معملها، تقرأ ملفًا عن "التنقل الواعي بين الترددات البشرية".
ثم انطفأت الصور.
وبقي شيء واحد.
اختيار.
إما أن تبقى واحدة… وتموت الأخرى.
أو ينقلب العالمين… ويدمجان، ويُفقد الوعي كله.
نظرت كل واحدة للأخرى…
واقتربتا.
ثم…
احتضنتا بعضهما.
وفي لحظة العناق… اختفى الجسد الملفوف.
---
استيقظت ناردين في غرفتها.
نفس الورق. نفس الحوائط.
لكن تحت المخدة، كانت هناك ورقة مكتوب فيها:
"تم الدمج. لا تبحثي عن الأصل.
انسي ما كان.
وانتبهي لما سيكون…
لأنك الآن… الإثنتان."
وفي مرآة الغرفة، انعكس وجهها…
لكن عين واحدة كانت بنيّة، والأخرى رمادية.
استقرت ناردين أخيرًا في عالم يبدو مألوفًا، لكن شيئًا فيه مائل قليلًا… كأن أحدهم عدّل الواقع بلمسة إصبع. الناس من حولها يتحدثون نفس اللهجة، نفس الوجوه، نفس الأماكن… لكن التفاصيل الصغيرة كانت غريبة:
صنبور الماء يفتح بالعكس، القمر يظهر كل ليلتين بدلًا من واحدة، وحتى أصوات الطيور في الصباح كانت تبدو وكأنها تُرتل نغمة حزينة متكررة.
في داخلها، كانت تسمع صوتين لا يتكلمان، بل يتنفسان معًا. شعور لا يُحكى… كأنك تسكن جسدك، لكنك لست وحدك فيه.
فهمت تدريجيًا أن ما حدث ليس تبادلًا… بل اندماج. لم تعد هي ناردين فقط، ولا نادين فقط. أصبحت نسختهما المدمجة.
"النُّسخة الواعية."
في أحد الأيام، وصلت رسالة غريبة إلى منزلها، مكتوبة بخط يدها لكنها لا تذكر أنها كتبتها.
كانت تحوي إحداثيات مكان على أطراف المدينة.
ذهبت في المساء، بحذرٍ لا يُشبه حذر الإنسان، بل يشبه حذر الكائنات التي عرفت يومًا شكل النهاية.
وصلت إلى مبنى مهجور، كان يبدو كأنه مصنع طاقة قديم.
في الداخل، وجدت جهازًا ضخمًا يشبه ما رأته نادين في المنشأة ذات يوم. وعلى الجهاز كانت هناك شاشة سوداء كتب عليها:
"مُبروك… لقد نجحتِ حيث فشل الجميع."
ثم ظهرت صور لوجوه كثيرة…
بشر من عوالم أخرى، من ترددات موازية، حاولوا التبديل… وفشلوا.
فانتهى بهم المطاف في غرف الحجر، أو على صفحات الكتب المحظورة، أو في كوابيس لا يصحو منها أحد.
ثم ظهرت عبارة أخيرة:
"بقي شيء واحد…"
"إغلاق الحلقة."
فهمت.
كان عليها أن تُوقف الجهاز… أن تمنع أي تبديل جديد. أن تغلق الحلقة التي فُتحت منذ أن قررت نادين - ذات يوم - أن تلعب بنظرية "العبور الكمي للوعي".
جهاز النقل ما زال يعمل، ولو استُخدم مجددًا… قد يُفتَح جحيم من الأناوات المتعددة، وقد لا تحتمل النسخة البشرية الواحدة كل تلك الانشطارات.
اقتربت من قلب الجهاز…
وضغطت الزر الأحمر المكتوب عليه:
"Terminate Bridge."
اهتزّ المكان، وسُمِع صوت أشبه بصراخ معدني من كل الاتجاهات، ثم انطفأت كل الأضواء.
خرجت ناردين، ونظرت إلى السماء.
كان القمر هذه المرة كاملاً، واحدًا، بلا ظلّ مزدوج.
مرت سنوات.
عاشت حياة هادئة، لا تخلو من ومضات غريبة: رؤى، مشاعر ليست لها، ذكريات لم تعشها.
لكنها تعلمت التعايش.
صارت تُدرّس في كلية الطاقة.
لم تكن تقترب من أي مشروع متعلق بالترددات أو العوالم الموازية.
لكنها أحيانًا، حين تمشي في أروقة الجامعة… ترى فتاة تمشي بعكس اتجاهها.
تشبهها تمامًا.
تختفي بمجرد أن تلتفت.
وفي أحد الأيام… تلقت ظرفًا أسود.
داخله كان هناك قصاصة صغيرة مكتوب عليها بخط مألوف:
"أغلقتِ الجسر… لكن المفاتيح لا تُحرق."
"لو احتجتِ العودة… ابحثي عن المرآة القديمة."
ابتسمت ناردين، ثم مزّقت الرسالة.
همست لنفسها:
– "أنا مش عايزة أرجع…
أنا أخيرًا بقيت كاملة."
ثم أغلقت الباب خلفها، تاركة الظلال خارجًا… للمرة الأولى منذ زمن
تمت

تعليقات
إرسال تعليق
مرحب بكم في مدونة معرض الرويات نتمنه لكم قراء ممتعه اترك5 تعليق ليصلك كل جديد